لم يجرِ أي حوار حول تسميم "أبو عمار"... وبقية النقاشات – إن صحّت – لا تقل خطورة عن موضوع التسميم
نبيل أبو جعفر
لست مع الرئيس عباس – ولا أعرف شخصياً دحلان – ومع ذلك حاولت منذ أن استلم الرئاسة تبرير بعض أطروحاته وإجراءاته وما كنتُ أحسبه تكتيكاً للوهلة الأولى، إنطلاقاً من أن مهمة أي رجل يأتي بعد الراحل ياسر عرفات، تفرض عليه أن يحفر بأظافر يديه ورجليه طريق إدارته لشؤون شعبنا المودّع بين عشرات التنظيمات والمؤسسات والحركات الظاهرة والمستترة.
إصراري على محاولة التبرير فترة من الزمن جعلني أختلف منذ البداية حتى مع رفيقة العمر، مع أنها إبنة فتح وأولى مناضلاتها اللواتي سُجِنّ مع الأخوات الأوائل، وقضين مطلع سنين السبعينات في سجن الرملة.
بقيت على هذا الحال إلى أن صُدمتُ بكمّ من المواقف التي لا تقبل التبرير ولا التأويل وطولة البال أكثر. ثم تحوَّلتْ الصدمة إلى قناعة لا ريب فيها. ومع ذلك، لم أُرِدْ هذه المقدّمة إلاّ لأقول أنه بعد قراءتي للمحضر الذي أعلنه الأخ فاروق القدومي والضجّة الهائلة التي أحدثها، إلى جانب الإرباك الذي أصاب رأس السلطة وأطرافها ودفعها الى اتخاذ قرارات إرتجالية وانفعالية في آن، كوقف طاقم فضائية "الجزيرة" عن العمل، ثم العودة عن هذا القرار بفعل "وحي" نزل عليها بعد أيام..
بعد هذه التداعيات وغيرها الكثير، ترسّخت لدي بعض ملاحظات أساسية ومبدئية حول هذا الموضوع ليست واردة في المحضر، رغم تركيز الكل عليها وكأنها واردة فيه بالنص، وهي لا تقلّ خطراً عمّا طُرِح، وأُلخّص أبرزها بداية بالقول: إذا اعتبرنا كل ما ورد في المحضر صحيحاً ومؤكداً بالنص الحرفي، فإن صيغة الإتهام الموجهة لكل من عباس ودحلان ليست دقيقة وهي الإشتراك في التخطيط لقتل عرفات بالسُّم، كما ورد على لسان سائر الباحثين والكتاب والسياسيين.
هناك "خطة" أخرى غير التسميم
هذا لا ينفي بالطبع أن التهمة أو التهم الأخرى الدقيقة أقل خطورة وإدانة على الإطلاق، ولكن توصيفها يختلف عمّا جرى التركيز عليه. ذلك لأننا إذا عدنا وقرأنا المحضر كلمة كلمة لن نجد فيه أي "حوار" دار بين المجتمعين حول التسميم، وإن جاء ذلك على لسان شارون مرّة، أجابه عليها أبو مازن بالقول: "الخطّة أن نمرّر كل شيء من خلال عرفات". يعني بوضوح – والكلام دائماً في حال ثبوت دقة المحضر – أن هناك خطّة تم الاتفاق عليها.
بمعنى آخر: إن أية محكمة أو أي قاضٍ لا يمكنهم الإستناد إلى المحضر كي يدينوا "المتّهمين" بالتخطيط لعملية التسميم، في الوقت الذي يمكن فيه إدانتهم بتهم أخرى كالتآمر مع العدو لتنفيذ مخطط استيلاء على السلطة خدمة لمصالحهم ومصالحه، وفق ما نُسب بالنص لـ "ابو مازن" قوله مرّتين في معرض الحديث عن ضرورة السيطرة على الأرض بوجود أبو عمار: ".. وهذا أنجح لكم ولنا".
شيء واحد يُمكن أن يُخرج عباس ودحلان من هذه الورطة كالشعرة من العجين – حتى في حال التأكد من صحّة المحضر – وهو إذا كان تصرفهما قد تمّ بعلم القيادة أو بعضها أو بالتنسيق مع الرئيس الراحل لاعتماد هذا الاسلوب من قبيل التكتيك"!".. ولكن السؤال هنا: كيف يمكن أن يقوم "ابو عمار" بإرسال المحضر الى "أبو اللطف" على اعتبار أنه دليل إدانة إذا كان مضمون ما جاء فيه قد تمّ بعلمه ومعرفته ولأجل هدف تمّ التخطيط له فلسطينياً... وليس إسرائيلياً؟!
بين أسلوب وأسلوب
وفي كل الأحوال، ومهما اتسعت دائرة الاتهامات والتفسيرات لمضمون هذا المحضر، فإن الثابت حتى الآن لكل من يقرأه أنه لم يجر أخذ وردّ حول موضوع التسميم، بينما تمّ النقاش حول تصفيات قيادات حماس والجهاد وغيرهما من الفصائل وأورد شارون أسماء محددّة، ووقع دحلان بالفخ حين قال جملته التي ستقضي عليه – في حال ثبوت قولها:- "أنا مع قتل الرنتيسي وعبد الله الشامي..."، بينما كانت أجوبة "أبو مازن" – وهو الموافق على التنسيق مع شارون حول "العمل المشترك" لتصفية الساحة – تدور حول جملة واحدة كلّما كان يخرج شارون عن "النص".
فعندما قال: يجب العمل على قتل كل القادة العسكريين والسياسيين... أجابه أبو مازن: "بهذه الطريقة حتماً سنفشل".
وعندما قال: يجب أن نسهّل عليكم تصفية قادة حماس من خلال افتعال أزمة... أجابه "أبو مازن" أيضاً: "بهذه الطريقة سنفشل تماماً". وتكرّر نفس الجواب وإن بصيغ أخرى كقوله: "هذا سيفجّر الوضع"، و.. "هذا لا يكون دعماً لنا"، و"هذه العملية ستخربط كل شيء ولن تخدمنا ولا تخدمكم".
يبقى القول قبل المحضر وبعده، وقبل رحيل "أبو عمار" وحتى اليوم، أن القيادة التي دفعت ثمن التوريث الى أرملته التي تمترست أمام سريره في مستشفى بيرسي بباريس، وكانت الرجل الوحيد بين الحاضرين، وكان كل الباقين من أكبرهم إلى أصغرهم كمّاً مهملاً في ردهات المستشفى وعلى سلالمه، صرّح بعض الناطقين بلسانها بتصريحات مضلّلة وبعضها مقصود حول وضعه الصحي، وهم لا يعرفون شيئاً عن التفاصيل، واقتصر دورهم على إحضار "أبو عمار" وقد شارف على النهاية لكي يعيدوه سريعاً إلى مثواه الأخير، و... "كان الله بالسرّ عليما!".